بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
«على من ستنزل «حمولتك» من البراميل المتفجرة هذا المساء»؟ يسأل قائد فرقة باطنية نصيرية تابعة لعصابة دمشق الكافرة المجرمة. يرد: الطيار: «على الباقي من كلاب السنة اللي تحتي»!
هكذا بدا المشهد، أو هكذا تخيله كثيرون. لكن الذي لا مراء فيه ما حدث بعد ذلك بقليل. عدد من البراميل الملأى بمادة تي إن تي شديدة الانفجار، وكميات من البنزين وقضبان فولاذية، تهوي على رؤوس النائمين في بيوتهم من أمهات وآباء وأطفال وصبايا، فتقلب البيوت رأساً على عقب، وتحرق الأبرياء على سررهم، وتمزقهم أشلاء. ثم يبدأ المشهد المألوف: يئن بعض الجرحى تحت الأنقاض أو يستغيثون، يهب متطوعون في الحي لمساعدتهم، يمدون إليهم يد النجاة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، تنجو طفلة فقدت كل أسرتها، يخرج صبي (وقد رأيته بعيني في حلب قبل أيام) من تحت بقايا بيته، وقد علم أن والديه وإخوته استشهدوا جميعاً، فيصرخ غير مصدق، ويهيم على وجهه. وعندما حاول بعض الأهالي الإمساك به، تخلص منهم، وانطلق باحثاً عن أهله هاتفاً والدموع تضمخ وجهه الصغير: «أخواتي...أهلي»! لقد تغيرت حياة هذا الطفل إلى الأبد.
يا للهول! كيف يسكت العالم «المتحضر» ثلاث سنوات على الذبح بالبراميل (وهي طريقة بدائية عشوائية لا حدود لقذارتها وخستها، ولا يمكن أن يغض العالم الطرف عنها لو كان الضحايا فيلة أو دلافين يخشى عليها من الانقراض). لكن من يلوم «المتحضرين» الذين ارتجفوا خوفاً على إسرائيل؛ ربيبتهم في الحضارة، بعد ضرب بشار الأبرياء في ريف دمشق بالأسلحة الكيميائية، فألزموا السفاح بتدميرها، بينما ظلوا يشجعون إبادة مئات الألوف من الأبرياء بالمدافع والصواريخ والسكاكين والبراميل.
ملعون هذا العالم «الحر»! إنه ليس حراً، ولم يكن حراً قط، بل هو أسير أحقاده الكولونيالية المتراكمة منذ ما يُعرف بالحروب الصليبية. ملعونة هي الليبرالية الأميركية العنصرية التي تحصر الإنسان تعريفاً في إنسان الحضارة اليهو- مسيحية الغربية. ملعون باراك أوباما الذي كان أكبر مجرم حرب في العقد الأخير من هذا الزمان، فلم يكتف بتشغيل ماكينة القتل التابعة له في باكستان وأفغانستان واليمن والصومال، بل شارك بكل قوة في استنزاف السوريين الذين خرجوا فقط للبحث عن حياة حرة كريمة، وقتلهم جوعاً وبرداً، وحرمانهم من حقهم في الدفاع عن أنفسهم، والضغط على حلفائه في الخليج لمنع مدهم بالسلاح النوعي. ملعونة هي الأمم المتحدة التي ليست سوى حديقة خلفية لواشنطن تزرع فيها ما تشاء من النفاق والبهتان والتحكم في مصائر الشعوب. ملعون هو التشيع الباطني الصفوي في فارس، وفي كل المدن والبلدان التي شارك أبناؤها في القتل والإفساد في الشام: (بغداد، النجف، كربلاء، البصرة، ضاحية بيروت الجنوبية، البقاع، الجنوب اللبناني، الكويت، القطيف، صعدة). ملعون هو الحاكم العربي المتواطئ مع القتلة، أو الساكت المتفرج وهو قادر على فعل شيء، أي شيء!
ما يجري في سوريا مروّع، ويفطر قلوب البشر. لكن هل بقي على هذه الأرض بشر؟ يلح علي هنا بيت الشاعر اليمني، عبد الله البردّوني:
فظيعٌ جهلُ ما يجري
وأفظعُ منه أن تدري!
وربما لو بقي البردوني، وسمع ما يعتصر القلب في سوريا لكتب:
وأفظعُ منه أن تبقى
حبيس العجز والقهر!
الصمت أشد بأساً وأشد تنكيلا. الصمت جريمة حرب، أو بحسب تعبير جورج أورويل: «في زمن الخداع الكوني، يصبح قول الحقيقة عملاً ثورياً»، وبحسب دزموند توتو: «إذا اخترت الحياد أمام الظلم، فقد اخترت الانحياز إلى مرتكب الظلم». في الحقيقة، كان شعار «صمتكم يقتلنا» أحد الشعارات التي اختارها شباب الثورة لإحدى جُمع الاحتجاجات. كل شامي يسقط شهيداً بيد الباطنيين الهمج قتلته أيضاً رصاصة صمت من ذوي القربى. أتذكر الآن فيلماً عن فلسطين شاهدته في الولايات المتحدة، وفيه يتحدث شيخ فلسطيني بمرارة عن النكبة: «جاء جيش الإنقاذ العربي وطلبوا منا الخروج، وقالوا لنا حترجعوا في المساء. ومر نصف قرن وما رجعنا. والله، والله، والله، الرصاصة اللي في رجلي هذي ما إجت من اليهود، إجت من الدول العربية».
الآن، فلسطين جديدة تتشكل، ولكن بصورة أشد فظاعة، وعلى مرأى من العالم ومسمع، وهو ما لم يحدث لفلسطين. كل قطرة دم ينزفها شامي مأساة كبيرة. صحيح أن الشهادة حياة للأمة؛ صحيح أن باب الحرية «بكل يد مضرجة يُدقُّ» كما أنشد شوقي، صحيح أن مهر الكرامة غال، لكن كل ذلك لا يبرر هذا الخنوع والعجز عن إيقاف مسلسل الإبادة. يجب أن تسكت أبواق التصهين عن لوم الضحايا، أو مطالبتهم بـ «تنقية» صفوفهم من «المتطرفين». المتطرفون هم القتلة. المتطرفون هم من سمحوا باستئصال شعب، واقتلاعه من أرضه، وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وهم وحدهم من يجب أن يكفروا عن خطيئاتهم، ويوقفوا كلبهم المسعور في دمشق. كأنما صاغ محمود درويش المشهد بطريقته:
وضعوا على فمه السلاسلْ
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل!
طردوه من كل المرافئ
أخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
كنت قبل يومين في إسطنبول. شاهدت العشرات من نساء سوريا وأطفالها في ميدان «تقسيم» يمدون أيديهم وفي حلوقهم غصة، إذ لم يتعود هذا الشعب الأبي أن يمد يده. سمعت امرأة تصرخ على الرصيف ذات مساء: «ساعدوني. ما أكلت أنا وبنتي شي من الصبح...ساعدوني يا أمة محمد»! هتفت: لبيك، وقدمت ما كان بوسعي. مشيت قليلاً، فرأيت طفلة من حلب بهية الملامح، تبيع ماءً ومناديل. سألتها: ما اسمك؟ أجابت: ماسة! اشتريت بضاعتها، وقبلت يدها، والتقطت صورة معها، فأشرق محياها، فكانت أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي.
وقتها ارتسمت في ذهني مشاهد عدة: العشرات من العوائل السورية المتدفقة إلى مطار القاهرة في عهد الرئيس مرسي، وأحباؤهم يستقبلونهم بالدموع، والنظام العروبي الإسلامي آنذاك يوفر لهم كل سبل العيش الكريم؛ الصمت المذهل في الجوار السوري على جيل من أطفال سوريا يولد من رحم القهر والشعور العميق بالظلم؛ ومشهد آخر لا يبدو أنه الأخير رأيته مساء الأحد بعد عودتي إلى الفندق في إسطنبول على شاشة «الجزيرة»: مذبحة أخرى بالبراميل في حلب. 91 شهيداً بضربة واحدة عدا الجرحى! تسلط العدو على حلب ثمانية أيام حسوماً، قتل خلالها ببراميله الغادرة الجبانة أكثر من 400 مواطن. لا.. ليسوا مجرد أرقام، وإن كانوا في نظر القتلة «حيوانات» أو أقل، لا آمال لهم ولا أحلام ولا أهل ولا أحبّة ولا ذرة كرامة، ولا يستحقون حتى الحياة. لم أتمالك نفسي، فأغلقت التلفزيون. لم يعد بوسعي التحمل! هل أنا واحد من الذين ألومهم؟